لماذا نريد دستورا للبلاد

هل المملكة الدستورية حل، وما فائدة الدستور؟

أصل المشكلة:

السعودية دولة جديدة بنيت مكان تاريخ وإرث إسلامي وعربي عريق وعظيم، ولكنه يراد لها سياسيا أن تنفك عن ذلك التاريخ وتتخلص من تبعاته وتتنازل عن عمقه وقوته وإرثه العظيم، وذلك ابتداء من اختيار اسم الدولة الجديد والمنفك عن التاريخ، وانتهاء بالممارسات على الأرض التي تعكس كيانًا جديدا لا أصل ولا حضارة له.

يعود تاريخ الدولة بشكلها الجديد إلى الاتفاق الشهير بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، والتعاهد بينهما أن يحمي كل منهما مشروع الآخر ويبذل قدراته (الدينية لابن عبد الوهاب والسياسية لابن سعود) لحماية بعضهما والتآزر لبناء مشروعهما الوليد المتكون في السعودية والوهابية.

تعثرت الدولة السعودية الأولى ثم الثانية ثم ها نحن في الثالثة، وتغير شكل الدولة مرات عدة وبأشكال سريعة ومتناقضة ومتضادة أحيانا، ولم يكن ثابتا فيها وفي دولها الثلاث إلا التمسك بآل سعود كقادة سياسيين والمدرسة الوهابية كمرجع وغطاء ديني، وبلا مشروع سياسي لآل سعود إلا الحكم والاستمرار في الحكم، وبلا مشروع ديني للوهابية إلا إبقاء الدين حاضرا لترسيخ ذلك الحكم وتطبيق الاتفاق، وهكذا كانت الحال للمؤسستين منذ التأسيس حتى الآن، ممثلتين في أسرة آل سعود ككيان سياسي وهيئة كبار العلماء ككيان وهابي ومعه مؤسسات حكومية أخرى تشرف على تنفيذ الاتفاق القديم.

 

وبهذا وقعت البلاد تحت مشاكل رئيسية نتج عنها مشاكل أخرى متعددة، فالمشكلة الأولى غياب المشروع الأممي مقابل مشروع فئوي، الثانية الانفكاك من التاريخ والهوية، الثالثة توظيف الدين لإرضاخ الناس وتغييبهم، الرابعة انعدام الأمانة لدى القيادة وانعدام الرغبة في البناء. وبهذا لم يتم بناء وطن، وغُيب الناس، وأمن أصحاب النفوذ والقرار فاستبدوا بكل شيء وتحكموا بكل شيء مستخدمين قوتهم المادية والدينية، وانتشر الفساد، وضاعت حقوق العباد، وتخلفت البلاد رغم إمكاناتها الهائلة، ففقر وبطالة وضعف في الأجور وضعف في الضمان الاجتماعي، وسوء تعليم وصحة وضعف البنية التحتية، كل ذلك في البلد الأكبر تصديرا للنفط في العالم، إضافة إلى الظلم المنتشر وقمع كل من يعترض وسجون وخوف ونقاط تفتيش وتجسس على كل مواطن وعقابهم لمجرد رأي، كل ذلك في بلد يدعي قادته أنهم يتمسكون بدين يأمرهم بالعدل والقسط.

 

أهمية الدستور:

الدستور هو ضابط لعلاقة الحاكم بالمحكوم، ومن هو الحاكم وما صلاحياته، وما شكل الدولة وكيف تدار، وهذا من أبسط ما تحتاجه الدول، وخاصة إذا كانت ناشئة ووليدة، أو يراد لها أن تكون هكذا، ولهذا كانت ضغوط على السلطات السعودية لكتابة شيء من هذا، وأن يكون لها دستور يبين ماهية الدولة، فكتبت السلطات السعودية في عهد الملك فهد بن العبدالعزيز 1412هـ "النظام الأساسي للحكم"، ليكون قريبا من الصياغة الدستورية، قريبا منها إذا كانت ضعيفة ومخفقة، ولكي لا يقال ذلك فقد حرصت السلطات أن توضح أن هذا نظام فقط وليس دستور، ووضعت مادته الأولى كدرع وقاية من النقد أو أي مطالب دستورية:

"المادة الأولى:

المملكة العربية السعودية، دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم."

وهي بهذا تستخدم الدين لتخدير المجتمع لكيلا يطالب بدستور، وتقول للخارج أن النظام الأساسي للحكم هو بمثابة الدستور وأن المجتمع لا يقبل صياغة الدستور.

بينما الحاجة ماسة لضابط يضبط شكل الدولة، ويرسم حدود الحاكم والقواعد الأساسية للدولة وينظم السلطات والتخصصات والعلاقات في الدولة، لكي يساهم في الحد من الانفلات التام الذي بدأ بالتأسيس، ولازال حتى اليوم والذي نتج عنه تخلف في البلاد وضياع لتاريخها ومخاطرة عظيمة بمستقبلها.

 

الدستور حماية للجميع الشعب والسلطة:

إن حاجة المجتمع والبلاد للدستور ماسة وواضحة للجميع، حيث أن بلادا بلا محددات وتضع كل مصيرها في يد مستبد أوحد فهي بالتأكيد في خطر كبير، ورهن مزاج وقرار ذلك المستبد الذي لا يُسأل عما يفعل، فماذا لو كان ذلك المستبد بلا علم ولا معرفة ولا مشروع. فأي محدد وضابط لسلوكه ولصلاحياته فهو بلا شك فيه خير للمجتمع والبلاد، ولكنه أيضا مفيد في بلادنا للأسرة الحاكمة أيضا، وهي في أمس الحاجة له وخاصة في هذه المرحلة، وقد أصدر الملك سلمان أمرا ملكيا للتعديل على النظام الأساسي للحكم ليعدل الفقرة باء من المادة الخامسة من النظام الأساسي للحكم لتصبح على الشكل التالي "يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء، ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملكا ووليا للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسس".

وذلك تمهيدا لاستلام ابنه محمد لاستلام الحكم، ولا يخلو هذا من دلالتين هامتين: الأولى ضرورة هذه المواد وأهميتها حتى للأسرة الحاكمة، ولو كانت ليست أهمية كبرى، الثانية وهي الأهم أن هذه المواد ليست منظمة حقيقة للسلطات فهي أداة بأيديهم وهاهم يعدلونها بأمر ملكي متى ما أرادوا، فهي بأيديهم وهم من صاغها وهم من يشرف عليها وهم من يعدل، والشعب بأكمله لا قيمة له عندهم.

ولكن، لماذا يجري التعديل: لانهم يعلمون أن المرحلة خطرة، ولأنهم خشوا من اعتراض من بيت الحكم على تعيين أو تنصيب محمد بن سلمان، ولذا فهم يريدون مادة يتمسكون بها، هم يستشعرون الخطر، ويعرفون حساسية المرحلة، وهم حاليا يعلمون علم اليقين ضعف منظومتهم وإمكانية الانهيار، ويعلمون أنهم يفقدون مقومات البقاء التي أبقتهم حتى هذه اللحظة، فقد كانوا يستقوون بأوروبا وها هي أوروبا تتخلى عنهم شيئا فشيئا، واستقووا بأمريكا لسنوات ثم أصيبوا بخيبة أمل بعد الاتفاق الإيراني النووي المبرم في 2015، وحاولوا الاستقواء بإسرائيل فوجدوا أن إسرائيل لا تريد منهم إلا أن يخوضوا حربا بالوكالة مع إيران وهذا مخيف وتكلفته رهيبة، وحاولوا التوجه لروسيا وقبلتهم روسيا ولكنهم أدركوا أنهم لن يكونوا على قائمة تحالفات روسيا وأنها لن تقدمهم على حلفائها القدماء إيران وسوريا، ثم رأوا أنهم لا صديق لهم إقليمي، وأن علاقاتهم متوترة بالجميع، حتى من كان أقرب المقربين لهم كمنظمة التحرير الفلسطينية وتيار المستقبل في لبنان والسلطات المغربية والأردنية، ودُفعوا لتشكيل تحالف وهمي لا وجود له إلا بمؤتمر يتيم وإعلام غير صادق، ليزعموا أن لهم حلفاء، فلم يزدهم ذلك التحالف الشكلي إلا تكشفا، هذا خارجيا. أما داخليا فهم يدركون ضعف المدرسة الوهابية، وان الناس انفضت من حول مؤسساتها وفتاواها المتلونة والمتغيرة برغبة السلطات وظروفها حسب كل مرحلة، وانكشف عمودها الفقري هيئة كبار العلماء وهيئة الأمر بالمعروف ودعاة السلطة وكل رجالها. وتعلم السلطات التصاعد المتوازي لأمرين هامين مهددين للنظام، وهما وعي ومعرفة الناس من جهة، وغضبهم وحنقهم من ممارسة السلطات من جهة أخرى، لذا، فإن السلطات اليوم أحوج ما تكون للاستقواء بالشارع، بالشعب، وليس بالخارج، ولا بمؤسساتها الداخلية المصنوعة منها ولها، ولا سبيل لهذه السلطة في البقاء إلا بإرضاء الشارع بخطوات إصلاحية تبدأ بكتابة دستور وتحد من صلاحيات الحاكم وتعطي المحكوم الحق في المشاركة السياسية وفي مراقبة السلطات واختيار ممثلية وصياغة وحفظ وبناء مستقبل دولته، ليطمئن على بلده وتتحول إلى دولة حقوق ومؤسسات بدل كونها دولة استبداد وفساد وضياع، وانفكاك من الماضي، وضياع رؤية للمستقبل.

 

هل يصح أخلاقيا أن نمد طوق نجاة لنظام تغول وظلم وفسد وأفسد؟

لو سألت المواطن السعودي "السعودي تسمية مرحلية اضطرارية"، لو سألته عما يريد فعله بمن ضيع بلده ودمره وقتل أحلام الكثيرين وفسد وأفسد وارتكب الجرائم بحق الوطن وأهله، فبالتأكيد أن الرأي سيكون بين رأيين متطرفين مفهومة دوافعهما، ورأيين آخرين منطقيين. فإما أن يقول أنه يجب أن يُتشفى منهم بتعذيب أو نحوه، وهذا رأي متطرف معروف دافعه وهو الغضب الشديد مما فعلوا في بلادنا، ورأي متطرف آخر قد يقول بتكريمهم، وهذا أيضا تطرف معروف دافعه وهو الإشكال النفسي ذاته الذي أصاب مرضى متلازمة استكهولم، ورأي ثالث منطقي سيطلب محاكمتهم ومحاسبتهم بعدالة، وأظن ظنا أن الغالبية يريدون العدالة والله يأمر بالعدل، ورأي رابع منطقي أيضا قد يعفو ويصفح عن تلك القيادة مع كل ما ارتكبت فيكون أصحاب هذا الرأي من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. ولكن، ما هو الأهم من هذا كله، الأهم هو مصير البلاد وليس مصير من ضيع البلاد، وأظن جميع من ذكر سابقا باختلاف آرائهم سيتفقون أن حفظ البلاد وبناؤها أهم بكثير من الحرص على مصير من ضيعها وأجرم بحقها. ومصير البلاد بلا شك يكون أكثر حفظا ونكون أكثر اطمئنانا بوجود دستور، وببناء الحياة بشكل صحيح، والشروع في ذلك، سواء كانت البداية بوجود المفسد أم بعد رحيله، الأهم أن نبدأ بالبناء من الآن، وزوال الظلم قريب بلا شك، ويكون أقرب كلما خف تغوله وكلما تقدمنا نحن للأمام، والدستور خطوة للأمام، وتمكين الناس خطوة أيضا.

 

إذا كان الإصلاح والدستور من صالح النظام، إذا لماذا يرفضه؟

بوضوح، لأن من تعود على الانفلات التام لا يريد أن يقيد نفسه ولا يقبل أن تحد من صلاحياته، وصحيح أن مشروعه البقاء في الحكم، وأن الإصلاح قد يبقيه في الحكم أطول، ولكن الأصح أنه يريد أن يبقى في الحكم ليفسد وليستأثر بالمال العام ولينمي ثرواته، ولذا فهو يقمع كل من يتحدث، ويخنق المجتمع، ويمنع حرية التعبير، ليستمر في الحكم، ويستمر فساده، ولهذا لا يتجه للإصلاح حتى وإن كان الإصلاح هو طوقه الأخير، ولكن ولربما اتجه له إذا أدرك تماما أن هناك ضغوطا حقيقية تضاف إلى وضعه الضعيف الحالي ليدرك أنه لا خلاص له ولا مفر إلا بالتسليم والتنازل عن استبداده وفساده، ولعله يقدم على هذه الخطوة ليخفف من الغضب والكراهية تجاهه، وليكون رحيله أخف وطأة عليه، وليضاعف شريحة الناس الذين يجنحون للعفو ويقلل شريحة من يجنحون للانتقام أو من يطلبون المحاسبة.

 

الإصلاح أم التوجه لمملكة دستورية أم إسقاط النظام؟

أجزم أن أكثر من يطالبون بإصلاح النظام السعودي، أو يطالبون بمملكة دستورية، أو يطالبون بإسقاط الأسرة الحاكمة، أو يطالبون بتغيير النظام بشكل كامل وجذري وبكل مؤسساته، أجزم أن أكثرهم لا يهمهم النظام القائم كثيرا، بل يهمهم بشكل أساسي وبشكل أكبر وطنهم وأهله، ومستقبله ومصيره، ومعظمهم يبحث عن الأصلح للمستقبل، لذا، فإن الاختيار في مصير الأسرة الحاكمة لم يشغل الناس ولن يشغلهم كما يشغلهم مستقبل وطنهم، فمن يرى ضرورة بقائهم فهو يقول بأن هذا البقاء قد يحفظ البلاد من الفراغ، ومن يقول بضرورة رحيلهم فهو يقول بانعدام صلاح شيء في وجودهم...

إذا، فالعامل المشترك بين الجميع، أو الأغلب، هو الحرص على البلاد والسعي لإنقاذها والحفاظ على مستقبلها، وهذا اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد، فهم لا يختلفون في رغبتهم الجامحة للإنقاذ، وهذا بحد ذاته يدعو إلى تقدير واحترام جميع العاملين على تنوعهم واختلافهم، ويدعو إلى مد الجسور فيما بينهم وتعزيز سبل الحوار، وما نراه من حوار متزايد عبر منصات التواصل الاجتماعي، وفق الممكن، ما نراه مفيد ومثري، ليس فقط للمنظرين، بل للجمهور وللمتابعين، الذين يقرأون بين سطور كل الأطراف حرصا على الوطن، وحبا لأهله، ومبادرات وأعمال لحفظه ولإنقاذه.

لهذا، فإنك عندما تسألني، هل أريد الإصلاح في النظام أم أنني أريد إزالته؟ فسأقول لك أنني أريد ما يريده الطرفان من إنقاذ للبلاد، فإذا كان النظام سيصلح فليصلح، وهو بالتأكيد لن يصلح اختيارا وإنما مضطرا، لأنه لا يريد الحكم المقيد، ولا يقبل بسلطة تحت رقابة شعبية وتخضع لإرادة الناس، ولكن إن رضي فهل أكفر بما أدعو إليه من حق مشترك للجميع؟ وبالتأكيد أنه لن يقدم على ذلك إلا إذا شعر أن الضغط سيزيله، فقد يختار أن يرحل بسلام، وهو برأيي يرى الحكم الرشيد نزع لسلطته المطلقة، ويؤمن أن تجريده من صلاحياته الواسعة ومنعه من القمع والفساد ووضعه تحت المراقبة الشعبية يرى كل ذلك جزء من إسقاطه، ولن يبادر إليه إلا إذا خشي ما هو أصعب عليه.

إن ما يهمنا في نهاية المطاف هو حكم رشيد للبلاد، وعدالة تسود، وبناء للوطن والفرد، وإن كنت مؤمن أن من سعى جاهدا لمحاربة ذلك طوال وجوده لن يساهم في ضد فعله، ولكن هذا هو هدفنا الذي نسعى إليه ونؤصل له، فإن اختار المستبد أن يتجه لذلك، واختار الناس أن يعفو عنه، فليتجه لذلك حتى يختار الناس من يحكمهم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

هذا ما يهمنا في نهاية المطاف، وحتى الوصول إلى ذلك، فإن كل خطوة في هذا الاتجاه هي خطوة مباركة، نسعى إليها ونفرح بها مهما صغرت، يهمنا انها في الاتجاه الصحيح، رافضين أن نتوقف فنرفض الخطوات الصغيرة، ورافضين أن نقتنع بالخطوات الصغيرة عن الهدف الأخير المنشود.

فخروج معتقل من السجن بعد أن طاله الاعتقال التعسفي هذا هدف صغير في طريق الهدف الكبير (الحكم الرشيد والعدالة والبناء)، وعجوز تجد لها سرير في مستشفى هدف، وعاطل يتوظف هدف، ومرأة تقود سيارتها هدف، وفتاة تتخلص من معنفها هدف، ومعاق تمهد له طريق هدف، ولقمة في فم جائع هدف، كلها في الاتجاه الصحيح، مثلها مثل كتابة الدستور، لن أتوانى في دعمها، ولن أجعلها إنجازا للمستبد ولن تضيف شرعية لوجوده، وسنستمر حتى الهدف الكبير، بناء وطن عادل بحكم رشيد.

 

يحيى عسيري

2018-02-15

 

*حقوق النشر غير محفوظة

*يوجد أخطاء نحوية والمقال كتب سريعا لينشر في يوم حملة المطالبة بالدستور