رأي الجمهور

في صباح هذا اليوم قررت ألا تكون فترة قيادة السيارة للاتصالات والمكالمات، بسبب المزاج المتعثر وعدم الرغبة في الحديث مع أحدفي صباح هذا اليوم قررت ألا تكون فترة قيادة السيارة للاتصالات والمكالمات، بسبب المزاج المتعثر وعدم الرغبة في الحديث مع أحد، وكنت مستاء مني وغاضب مني جدًا نظرًا لأنني مارست ضغوطا كبيرة على نفسي لتقبل من يصعب وما يصعب تقبله، فقد أرغمت نفسي على ذلك لـ "ألعب دور سياسي" ولأكون "دبلوماسي"، ولكن كما يقول الشاب الظريف، لم تضبط معنا.

 

وكنت اسأل نفسي، هل يجب أن أكون أكثر صراحة وأقول كل ما أؤمن به وما أراه، رضي من رضي وسخط من سخط؟ أم أنني بحاجة لقول ما يُقبل، ثم يتم التدرج في الطريق حتى لا أخسر أثناء الطريق، وهل يسعف العمر لكي أتدرج، كنت اسأل ولم أكن في معرض الإجابة، ولا زلت لا أريد الإجابة حتى أكون في وضع أكثر هدوءً واستقرارا.

 

ومع هذه الأسئلة، ومع عدم الرغبة في الحديث مع أحد، فتحت برنامجا صوتيا اسمه "ساوند كلاود"، وبحثت عن آخر سورة الحجر "فاصدع بما تؤمر"، تلاوة جميلة وسكون وهدوء واسترخاء وطمأنينة، بدل مكالمات متوترة وشكاوى دائمة وأخبار حزينة، وأحيانًا لوم وعتاب على الأكسجين الذي تستنشقه ظنًا من البعض أنك أخذت من حصته في الهواء. 

ولا زال الجوال في وضعية تحويل جميع المكالمات منذ أن نمت ليلة البارحة. انتهت سورة الحجر أعدت المقطع، أعدته وتأملته حتى شعرت بالسكينة والاطمئنان وبدأت أسامحني.

 

تلى المقطع مقطع آخر لـ "كوكب الشرق"، أم كلثوم رحمها الله، كانت تقول "لا تقل أين ليالينا وقد كانت عذابا" وتأذيت من الذال الذي لُحِنَ ليكون زايًا، ولكن الصوت والأداء والموسيقى غفرت للزاي، ثم قالت "لا تسلني عن أمانينا وقد كانت سرابا"، قلت لا يا أم كلثوم، ليست سرابا، ربما نتعثر صحيح ولكن لا للإحباط، ولابد من أن نتدرب على رأي الجمهور يا أم كلثوم، حتى من انتظرته وقاطع، فرددت سامحها الله "لا تسلني عن أمانينا وقد كانت سرابا"، فقررت ألا أركز في الكلمات وأن استمتع بالصوت والأداء والموسيقى الهادئة وأكتفي بذلك، فهذه الكلمات فرضها علي الساوندكلاود فرضًا ولم اختارها، فقد اخترت تلاوة من سورة الحجر فأتى به بعدها فلم أردها، وحب قرآن وحب ألحان الغناء، في أذن عبد صار يجتمعان، ولكم في صاحب التلاوة الجميلة عبدالباسط عبدالصمد رحمه الله دلالة على عدم جواز تقديس نونية ابن القيم، ولعل لنا حديثا قادما عن وجوب عدم التسليم المطلق لأبيات الشعر والآراء البشرية وحِكَمِ الجدات، وخاصة ما ينطوي على خطأ واضح وظلم بين ويقدم على أنه نص مقدس، مثل: 

إن الزنا دين فإن أقرضته

كان الوفا من أهل بيتك فاعلم

من يزني بامرأة بألفي درهم

في بيته يزنى بغير الدرهم!

سامح الله الشافعي، وسامح من قدس هذه الأبيات المبنية على ظلم بين، ومعها ومثلها القصة التي تقول "دقة بدقة ولا زدنا زاد السقا". سامحهم الله، "ولا تزر وازرة وزر أخرى".

 

انتهت أم كلثوم، وبكل هدوء وانسجام واسترخاء قلت (اللـــــــــه، ياسلااااام)، ولكنني فزعت بصوت الجمهور الذي صفق بجنون، وصراخ ملئ المكان وتصفير وهتاف! عجيب! شعرت بأن الأغنية غاية في الهدوء فكيف يستقيم معها هذا الصخب والتفاعل الغير متسق، إنه تفاعل غريب ومعاكس تمامًا للأداء، هكذا قلت في نفسي، ولكن هذا هو الجمهور، وإن كان لم يثبت الاجماع.

 

هل جمهور أو على الأقل كل الذين سمعت أصواتهم خطأ وأنا صح؟ لن أتنازل عن ذوقي ورأيي، فالهدوء لا يصح أن نحييه بكل هذا الصخب، الأمر غير متسق، والجمهور خطأ، وهذا رأيي، وربما أن واحدًا أو اثنين صرخوا وصفروا فصرخ وصفر معهم البقية، وهذا دائم الحدوث، ولكن كيف نعدل الجمهور؟ هل برفع الوعي؟ أي وعي؟ الوعي الفني؟ الموضوع ليس له علاقة لا بالوعي ولا بالمعرفة، بل بالذوق الفني، ومن أنا لأتحدث عن الذوق الفني وأنا لا أعرف عنه أي شيء إلا أنني مطمئن لذوقي، حتى وإن كنت حديث عهد بقبول الغناء وسماعه، ولولا أنها كوكب الشرق لما علمت اسمها، فكيف احكم عليهم إذًا فضلًا عن أن أعدلهم بعد ذلك. ومع هذا لن أستسلم للجمهور، ورأيي صواب يحتمل الخطأ ولكني لن أتنازل عنه حتى أقتنع قناعة تامة لا لبس فيها بصواب يتفق مع ذوقي وعقلي ومعرفتي وإيماني، وكل ذلك بهدوء واسترخاء، ولكن "الدبلوماسية" والمجاملة السياسية عن الرأي الحر، مجبنة محزنة.