ليس الأقبح هو ذلك المتخلف الرجعي الذي فاته الركب وتقدم الناس وهو لايزال مكانه فقط، بل الأقبح الذي لا يستطيع قراءة تجارب الآخرين، ويعادي كل غريب عليه ليبقى في تخلفه، ويصر على استخدام أدواته القديمة التي لا تزال تفشل في كل مرة، ثم يضيف فوق هذه الحماقات أن يصر أن يلقي لوم إخفاقاته على جهة ليهرب منها.
وتزداد المشكلة إذا كان هذا المتخلف ذا مال وسلطة ونفوذ، فهو بهذا يفرض رؤيته فرضا، ويشتري له من يدافع عنها، إما جهل وتخلف، وإما رغبة ورهبة، فهو صاحب مال يرجون وده وعطاءه، وصاحب سلطة مستبدة مطلقة يخشون بطشه وقمعه وعقابه.
لقد قال الملائكة لله سبحانه وهو يخلق آدم بقصد استخلافه في الأرض "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" ولكن الله سبحانه وتعالى قال لهم "إني أعلم ما لاتعلمون". فهو سبحانه يعلم أن الإنسان قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه سبحانه هداه النجدين، فهو بالعلم والمعرفة والتجربة والعقل قد يصل إلى نتيجة تودي إلى ضد الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وتكون حصيلتها إعمار الأرض والبناء والتعايش والتسامح.
تصارع البشر وتقاتلوا في مرات عدة، وأفسدوا في الأرض، بداية من أبناء آدم حتى اليوم، والعقلاء منهم يأخذون العبرة من الأخطاء ويتعلمون منها، ليس من الغراب فقط عندما علمهم الدفن، ولكن من ابني آدم ألا نسمح للخلاف أن يصل إلى التعدي على الآخرين.
تحاربت الأمم وتقاتلت، وكانت القاعدة هي البقاء للأقوى، كالغابة تقريبًا، وشاء الله في عصر العلم والتطور أن يصل الإنسان للآخر المختلف بطريقة أسهل وأسرع، وسخر الإنسان علمه في كثير من المراحل للإفساد في الأرض وسفك الدماء، وكانت حروبًا محدودة جعلها العلم المنبثق حروبًا عالمية.
وبعد صراع عالمي وحروب طاحنة وصل الناس إلى نتيجة حتمية كان الواجب الوصول لها، وكان الواجب أن نكون نحن من أوصلهم لذلك، أو على الأقل أن نشاركهم في ذلك، وصلوا إلى أن صراعات القوة والنفوذ يجب أن تتوقف، وأن القوي اليوم ضعيف غدًا، وأن المنتصر والمغلوب يفقدون الأمان والطمئنينة على حد سواء، وأن هذه الفكرة ليست إلا فكرة متخلفة لن تسمح للبشر ـ كلهم ـ بحياة كريمة، ومن هنا كانت حقوق الإنسان، تلك الحقوق الأولية الأساسية التي يجب على الجميع الحفاظ عليها والتمسك بها، مهما كانت أديانهم أو ألوانهم أو أعراقهم أو خلفياتهم الثقافية أو السياسية أو غير ذلك، فنحن قبل الأديان وقبل كل شيء بشر نشترك في الإنسانية، وهي العامل المشترك بين الجميع "ولقد كرمنا بني آدم" كلهم دون اعتبار لاختلافاتهم.
واستطاع من كانوا يحرقون الأرض يومًا ويحرقهم الآخر يوم آخر، استطاعوا بتمسكهم بذلك أن يتقدموا آلاف الخطوات للأمام، فكفل لكل شخص حقه في التعبير عن رأيه وفي تمثيل نفسه دون أن يضر بأحد أو يضر به أحد، وتفرغ الناس للانتاج والعلم والاكتشاف وعمارة الأرض وإثراء البشرية باكتشافات واختراعات طبية وتقنية وغيرها لم تكن في حسبان ذلك الإنسان الرجعي الذي همه قتال وإقصاء من يختلف معهم.
وبعد أن رأى العالم نماذج رائدة تقدم للبشرية الكثير، وتنعم بحياة رغيدة آمنة هادئة مطمئنة، صار أقصى طموح الإنسان المتخلف هو أن يذهب لبلادنهم للسياحة أو للعلاج أو للدراسة ثم يعود لبلاده إما ليستبد ويطغى وإما ليؤيد المستبد الطاغية ويتوسله في مزيد من الآثام والإفساد في الأرض وسفك الدماء وقمع الحريات.
لقد خلقنا الله مختلفين، ولن يستطيع البيض أن يلغوا السود، ولن يلغي المسلمون الكفار، ولن يلغي الليبرالي الإسلامي، وتبقى فكرة معكم ومعنا وهذا الصراع موجودة لدى كل متخلف، إما أنها في يده ولسانه يعبث بها لاستطاعته، أو في عقله ليستخدمها متى ما استطاع أن يقصي ويؤذي وينتهك حق مخالفه، ولا يمنعه من ذلك إلا قوانين صارمة عادلة واضحة ولها آليات تحفظها من مؤسسات ممثلة للناس، وقضاء مستقل، ورقابة شعبية.
ومن العجب أن ترى من يدعي أنه إسلامي ثم يعجز أن ينسجم مع روح الإسلام التي علمتنا من هو الخصم الحقيقي وكيف نتعامل مع غيره، علمتنا آيات الممتحنة الثامنة والتاسعة بكل وضوح من الذي يجب قتاله والتصدي له وهو المعتدي الذي يمنع الناس من حقوقها، وأن غيره الذي لم يمنع الناس من حقوقها ولم يعتدي فإن الواجب بره والإقساط عليه، هذه آيات الكتاب، واضحة جلية، ينقضها ويتنصل منها ويتخذها ظهريا من لا يفهم القرآن ولا يحترمه وينقض آياته بآراء همجية هزيلة.
والأعجب من السابق أن ترى من يدعي الليبرالية وهو أقصائي دموي قبيح، يتراقص للاعدامات الظالمة، ويحرض ليل نهار على قمع مخالفيه، ويتعلق بأستار القمع والبطش والطغيان، ويلعن الإنسان ويكفر بحقوق الإنسان.
هؤلاء المرتزقة الجبناء الذي جل همهم رضاء المستبد القوي ونيل شيء مما غل، والوقاية من سجونه ومعتقلاته، هؤلاء لا زالوا هم والمستبد يعيشون في زمان سحيق، عجزوا عن فهم التجارب الناجحة وعن تطبيقها للخلاص من الظلم وأهله، وعجزوا عن اللحاق بالركب.
بل لا زالوا يسألون في كل مرة ويشككون وهم يرون الأحرار يدافعون عن المظلومين ويرفضون الظلم، فيسألون، هل هم معكم، هل يشبهونكم، هل توافقونهم.
فيعجزون عن فهم مبدأ أن الدفاع عن حقوق الإنسان للجميع، وأن رفض الظلم واجب مهما كان ضحيته، فيتهمون المدافع بمشابهة المظلوم، لسطحية وبساطة تفكيرهم ولرغبتهم ورهبتهم من الظالم، فقد يتهم بالدفاع عن ترويج المخدرات من يرفض قتل إنسان لأنه اتهم بترويج كميات يسيرة وحوكم محاكمة صورية تم تعذيبه فيها وانتزعت منه اعترافاته وكانت محاكمة سرية ولم يكن له محامي وربما لم يكن له مترجم، وكان مصيره القتل. فليس مدافعا عن الجريمة من يرفض قتل الناس بلا وجه حق، ومن يرى أن القضاء الغير مستقل والغير نزيه ليس مخولا لإنزال عقوبات كبرى تذهب فيها الأرواح ولا يمكن التراجع عنها حال عرفنا أنها ظالمة، فمابالك والأحكام تعزيرية برأي القاضي واجتهاده دون نص ولا دليل، وطريقة المحاكمة والقبض والتحقيق مليئة بالآثام والانتهاكات والإجرام، ثم في النهاية، يقتل هذا الضعيف تعزيرا باجتهاد القاضي وينجوا من أدنى عقوبة من يهرب الأطنان ويغرق البلاد بالمخدرات عبر الطائرات والسفن والباصات.
إن الهدف من العقوبات هو الحد من الجريمة، فما بال الجرائم تزداد بعقوباتهم، لأنها عقوبات ظالمة جائرة تهتز مع أول مبادئ العدالة وهو المساواة فتنطبق على الضعيف وينجوا القوي ثم تتهاوى العدالة.
ومن هنا أنتقل لمثال آخر هو بيت القصيد الآن، عندما يطالب شخص ما بالإفراج عن أقاربه أو محاكمتهم بعدل فيتم اعتقاله وتعذيبه والتنكيل به وبأهله ثم يرسل لمركز المناصحة ثم يخرج ويفجر نفسه، هل نلوم من كان يقول أنه يدعمه في مطالبه المشروعة، أم نلوم من حوله ودفعه لهذا التصرف.
اسمحوا لي أن أوضح في نقاط كيف تم تحويله أو دفعه بعيدًا عن الفكرة المتخلفة الرجعية القائمة على معكم ومعنا، منكم ومنا، وألا تدافع إلا عن من يشبهك، كفصائل الحيوانات تجتمع وتتكتل في الغابة.
هذا الذي فجر نفسه وقتل أبرياء ورجال أمن من أبنائنا وشبابنا ويجب أن يكونوا ذخرا لبلادهم، من قال له أن التعايش بين الناس وفقا لقوانين حقوق الإنسان كفر وردة، هل قلنا له ذلك أم أنتم.
من دلس عليه وقال له أن الديموقراطية تعني حكم الشعب للشعب وإزاحة حكم الله وهي كفر يجب مقت أهلها والدعاة لها.
من قال له وعلمه في المدارس وقولا وعملا أن مبادئ حقوق الإنسان قيم غربية لا تصلح لنا. بينما هي من جوهر الإسلام، بل من قال له قولا وعملا أن من يدعوا إلى حرية التعبير ويدعوا للشفافية ومحاربة الفساد ومن يدعوا إلى المساواة فلا صاحب سمو ينجو من إجرامه ولا صاحب دنو يبتلى بمالم يفعل، ولا خاصة قولهم مقدس ولحومهم مسمومة وعامة قولهم مرفوض وتعبيرهم عن رأيهم جريمة، من قال للناس ودرسهم ورسخ في عقولهم لعشرات السنوات أن هذه الأفكار كفر وزندقة وأنها جرائم وجنح يجب أن يأخذ أصحابها للمحاكم المتخصصة ليحكم عليهم بالسجون والعذاب وإلا فيخرجوا من الأرض ويحرموا العيش في أرضهم وبين أهلهم.
من يسيطر على التعليم طيلة هذه السنوات، أليس هو المسؤول، من يفرض رؤيته الدينية والفكرية بالقوة والمال، أليس هو المسؤول عن النتائج، من يستبد بالقرار والإدارة، كيف نسائل غيره ونبحث عن شماعة نعلق عليها رزاياه وتخلف بلادنا في كل المجالات طبية وصناعية وزراعية واقتصادية وثقافية وعلمية وتقنية، كل من اشترك في صناعة الواقع مسؤول عن النتائج، ولا أرى صانع لها إلا مستبد أوحد بيديه أدوات لها ألوان، التحى بعض أدواته وسموه رجل دين وهو عن روح الإسلام ومبادئه أبعد مايكون، وحلق الآخر شاربه وسموه ليبرالي وهو من أقبح المحرضين ومن أعظم المدافعين عن الاستبداد والقمع.
دافعوا عن الإنسان أيًا كان، وانحازوا له، واحملوا هم وطنكم الذي يتخلف ويدمر، واحملوا هم دينكم الذي يشوهونه ويستعملونه لتبرير رزاياهم، لا تسألوا عن هوية المظلوم ومع من هو، بل اسألوا كيف يرفع الظلم عنه، وكيف تتحقق العدالة وكيف تتوقف الجريمة، فالظلم واليأس والجهل غذاء الجريمة