العبد المأمور، عبد بالاختيار

 

 

وراء كل رزية "عبد مأمور" 

 

ينشأ الطفل في مجتمعاتنا على قيم جميلة وعظيمة، نستقيها من ديننا العظيم وثقافتنا العربية الجميلة، يرضع مع حليب أمه كيف يحب الخير للغير، والإيثار والكرم وحسن الخلق، وتعظم في نفسه وهو يكبر صور المروءة والشهامة والحفاظ على كرامته وكرامة غيره، يحفظ أن العدل قيمة لايمكن التنازل عنها، وأن الصدق والصراحة والأمانة لاتقبل التفريط والمساومة، تعزز فيه هذا القيم من ناحية، وتأتيه التحديات من نواحي أخرى، فتعزز بالنصوص الدينية وبالأرث التاريخي الذي نفخر بمعظمه، ولكنه حتمًا يواجه تحديات في الحياة تفرض على الضعيف شيئًا من التنازل أو قد يكون التخلي عن بعض قيمه، يتجاوزها الأقوياء الذين ربطوا حياتهم بهذه القيم، ويسقط الضعفاء الذين يجدون أنفسهم عاجزين في لحظة ما عن مقاومة التحدي والتمسك بهذه القيم.

ففي مجتمعات كمجتمعنا وبعد أن يشتد عود الشباب وتبدأ الحياة تطلب طلباتها ويبدأ الشاب مسيرة البحث عن لقمة العيش التي تحدها حدود لا أخلاقية في كثير من الأحيان في بلدان تفتقد للنظام والقانون، قد يجد الشباب نفسه بعد بحث مضني ووساطات وشفاعات وربما رشاوى، قد يجد نفسه في ذلك العمل، يقوم بكل شيء إلا مايتماشى مع قيمه التي أحبها وظن أنه لن ينفصل عنها، ينتظر آخر الشهر ليأخذ قوت شهره الذي قد ينقضي قبل إنقضاء الثلث الأخير من الشهر، لينتظر الشهر الذي بعده قوت نصف شهره وسداد دينه، لينتظر لاحقًا قوت البنوك والأقساط المتراكمة، وبين زحمة المتطلبات وضيق الموارد لايجد له مصدرًا غير هذا العمل الذي لايعلم بالضبط كيف وصل إليه وكيف يكون مصيره إن خرج منه، يجد نفسه ممرًا آمنًا لتعاملات لايرضاها، وربما ابتسم ابتسامة عريضة وهو يقول "خدامينك ياطويل العمر" ويرسم على وجهة نشوة بعمله هو الأكثر بعدًا عنها وهو أكبر ناقد لنفسه، ربما تبسم في ذلك الاجتماع مع المتبسمين ليبدون موافقتهم على ذلك المشروع وهو يقول في داخله "هذه خيانة وهذا إهدار للمال العام" ثم يصفق بحرارة ويردد "مشروع عظيم والله". ربما شارك في ظلم غيره ممن يشاركه نفس الهم، فكان مباشرًا للظلم، أو كاتبًا عنه بتأييد، أو مفتيًا له، أو كان أحد الذين صنعوه، وهو يردد "يستاهل" قاصدًا المظلوم، وفي نفسه يقول "هو مثلي وأنا مثله" يبكي من داخله، يعيش تناقض مع نفسه، يعود لمنزله وقد يبث همه وغمه لأمه أو أبيه أو زوجته أو صديقه الودود فيسمع الرد التخديري "أنت عود من حزمة"، أو "اش بيدك"؟،  وقد يخفي في نفسه كل هذه التناقضات.

بعدها يتناول العشاء من مرتب ذلك العمل، ويغط في النوم حتى الصباح، ويعود لذلك المكان لينتظر آخر الشهر كالعادة.

 في لحظة ما، يجد نفسه مضطرًا لاستقبال مصير جديد يواجه فيه ماتراكم من ديون والتزامات، أو مصير يتخلى فيه عن القيم العظيمة التي لم تكن تقبل المساومة قبل أن يراها حمل ثقيل قد لايطيقه، يضعف الكثيرون أمام لقمة العيش ويستسلم خوفا من مصير صعب ومجهول، فيقبل التنازل ليقلل من حدة التناقضات في داخله، وليسهل على نفسه تمرير كلما يتناقض مع قيمه، فيتخذ القرار الصعب، بأن يجعل من نفسه أداة بلا قيم ولا إرادة، متنازلًا عن إنسانيته، عن كرامته، مستسلمًا ومتعذرًا بقوله 

"أنا عبد مأمور"  ليكون بذلك ممرًا وممررًا لرزايا من استعبدوه، ووراء كل رزية عبد مأمور